فصل: ذكر أمر ابن العشبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


 ذكر إرسال معاوية عبد الله بن الحضرمي إلى البصرة

في هذه السنة بعد مقتل محمد بن أبي بكر واستيلاء عمرو بن العاص على مصر سير معاوية عبد الله بن عمرو بن الحضرمي إلى البصرة وقال له‏:‏ إن جل أهلها يرون رأينا في عثمان وقد قتلوا في الطلب بدمه فهم لذلك حنقون يودون أن يأتيهم من يجمعهم وينهض بهم في الطلب بثأرهم ودم إمامهم فانزل في مضر وتودد الأزد فإنهم كلهم معك وادع ربيعة فلن ينحرف عنك أحد فسار ابن الحضرمي حتى قدم البصرة وكان ابن عباس قد خرج إلى علي بالكوفة واستخلف زياد بن أبيه على البصرة فلما وصل ابن الحضرمي إلى البصرة نزل في بني تميم فأتاه العثمانية مسلمين عليه وحضره غيرهم فخطبهم وقال‏:‏ إن عثمان إمامكم إمام الهدى قتل مظلومًا قتله علي فطلبتم بدمه فجزاكم الله خيرًا‏.‏

فقام الضحاك بن قيس الهلالي وكان على شرطة ابن عباس فقال‏:‏ قبح الله ما جئتنا به وما تدعونا إليه أتيتنا والله بمثل ما أتانا به طلحة والزبير أتيانا وقد بايعنا عليًا واستقامت أمورنا فحملانا على الفرقة حتى ضرب بعضنا بعضًا ونحن الآن مجتمعون على بيعته وقد أقال العثرة وعفا عن المسيء أفتأمرنا أن ننتضي أسيافنا ويضرب بعضنا بعضًا ليكون معاوية أميرًا والله ليوم من أيام علي خير من معاوية وآل معاوية‏!‏ فقام عبد الله بن خازم السلمي فقال للضحاك‏:‏ اسكت فلست بأهل أن تتكلم‏.‏

ثم أقبل على ابن الحضرمي فقال‏:‏ نحن أنصارك ويدك والقول قولك فاقرأ كتابك‏.‏

فأخرج كتاب معاوية إليهم يذكرهم فيه آثار عثمان فيهم وحبه العافية وسده ثغورهم ويذكر قتله ويدعوهم إلى الطلب بدمه ويضمن أنه يعمل فيهم بالسنة ويعطيهم عطائين في السنة‏.‏

فلما فرغ من قراءته قام الأحنف فقال‏:‏ لا ناقتي في هذا ولا جملي‏.‏

واعتزل القوم‏.‏

وقام عمرو بن مرحوم العبدي فقال‏:‏ أيها الناس الزموا طاعتكم وجماعتكم ولا تنكثوا بيعتكم فنقع بكم الواقعة‏.‏ وكان عباس بن صحار العبدي مخالفًا لقومه في حب علي فقام وقال‏:‏ لننصرنك بأيدينا وألسنتنا‏.‏

فقال له المثنى بن مخربة العبدي‏:‏ والله لئن لم ترجع إلى مكانك الذي جئتنا منه لنجاهدنك بأسيافنا ورماحنا ولا يغرنكم هذا الذي يتكلم يعني ابن صحار‏.‏

فقال ابن الحضرمي لصبرة بن شيمان‏:‏ أنت ناب من أنياب العرب فانصرني‏.‏

فقال‏:‏ لو نزلت في داري لنصرتك‏.‏

فلما رأى زياد ذلك خاف فاستدعى حضين بن المنذر ومالك بن مسمع فقال‏:‏ أنتم يا معشر بكر بن ائل أنصار أمير المؤمنين وثقاته وقد كان من ابن الحضرمي ما ترون وأتاه من أتاه فامنعوني حتى يأتيني أمر أمير المؤمنين‏.‏

فقال حضين بن المنذر‏:‏ نعم‏.‏

وقال مالك وكان رأيه مائلًا إلى بني أمية‏:‏ هذا أمر لي فيه شركاء أستشير فيه وأنظر‏.‏

فلما رأى زياد تثاقل مالك خاف أن تختلف عليه ربيعة فأرسل إلى صبرة بن شيمان الحداني الأزدي يطلب أن يجيره وبيت مال المسلمين‏.‏

فقال‏:‏ إن حملته إلى داري أجرتكما‏.‏

فنقله إلى داره بالحدان ونقل المنبر أيضًا فكان يصلي الجمعة بمسجد الحدان ويطعم الطعام‏.‏

فقال زياد لجابر بن وهب الراسبي‏:‏ يا أبا محمد إني لا أرى ابن الحضرمي يكف وأراه سيقاتلكم ولا أدري ما عند أصحابك فانظر ما عندهم‏.‏فلما صلى زياد جلس في المسجد واجتمع الناس إليه فقال جابر‏:‏ يا معشر الأزد إن تميمًا تزعم أنهم هم الناس وأنهم أصبر منكم عند البأس وقد بلغني أنهم يريدون أن يسيروا إليكم ويأخذوا جاركم ويخرجوه قسرًا فكيف أنتم إذا فعلوا ذلك وقد أجرتموه وبيت مال المسلمين‏!‏ فقال صبرة بن شميان وكان مفخمًا‏:‏ إن جاء الأحنف جئت وإن جاء حتاتهم جئت وإن جاء شبابهم ففينا شباب‏.‏

وكتب زياد إلى علي بالخبر فأرسل علي إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي ثم التميمي ليفرق قومه عن ابن الحضرمي فإن امتنعوا قاتل بمن أطاعه من عصاه وكتب إلى زياد يعلمه ذلك‏.‏

فقدم أعين فأتى زيادًا فنزل عنده وجمع رجالًا وأتى قوم ونهض إلى ابن الحضرمي ومن معه ودعاهم فشتموه وواقفهم نهاره ثم انصرف عنهم فدخل عليه قوم قيل إنهم من الخوارج وقيل وضعهم ابن الحضرمي على قتله وكان معهم فقتلوه غيلةً فلما قتل أعين أراد زياد قتالهم فأرسلت تميم إلى الأزد‏:‏ إنا لم نعرض لجاركم فما تريدون إلى جارنا فكرهت الأزد قتالهم وقالوا‏:‏ إن عرضوا لجارنا منعناه‏.‏

وكتب زياد إلى علي يخبره خبر أعين وقتله فأرسل علي جارية بن قدامة السعدي وهو من بني سعد من تميم وبعث معه خمسين رجلًا وقيل خمسمائة من تميم وكتب إلى زياد يأمره بمعونة جارية والإشارة عليه‏.‏فقدم جارية البصرة فحذره زياد ما أصاب أعين فقام جارية في الأزد فجزاهم خيرًا وقال‏:‏ عرفتم الحق إذ جهله غيركم‏.‏

وقرأ كتاب علي إلى أهل البصرة يوبخهم ويتهددهم ويعنفهم ويتوعدهم بالمسير إليهم والإيقاع بهم وقعة تكون وقعة الجمل عندها هباء‏.‏

فقال صبرة بن شيمان‏:‏ سمعًا لأمير المؤمنين وطاعة‏!‏ نحن حرب لمن حاربه وسلم لمن سالمه‏.‏

وقال أبو صفرة والد المهلب لزياد‏:‏ لو أدركت يوم الجمل ما قاتل قومي أمير المؤمنين‏.‏

وقيل‏:‏ إن أبا صفرة كان توفي في مسيره إلى صفين والله أعلم‏.‏

وصار جارية إلى قومه وقرأ عليهم كتاب علي ووعدهم فأجابه أكثرهم فسار إلى ابن الحضرمي ومعه الأزد ومن تبعه من قومه وعلى خيل ابن الحضرمي عبد الله بن خازم السلمي فاقتتلوا ساعة وأقبل شريك بن الأعور الحارثي فصار مع جارية فانهزم ابن الحضرمي فتحصن بقصر سنبيل ومعه ابن خازم فأتته أمه عجلى وكانت حبشية فأمرته بالنزول فأبى فقالت‏:‏ والله لتنزلن أو لأنزعن ثيابي‏!‏ فنزل ونجا وأحرق جارية القصر بمن فيه فهلك ابن الحضرمي وسبعون رجلًا معه وعاد زياد إلى القصر وكان قصر سنبيل لفارس قديمًا وصار لسنبيل السعدي وحوله خندق وكان فيمن احترق دراع بن بدر أخو حارثة بن بدر فقال عمرو بن العرندس‏:‏ رددنا زيادًا إلى داره وجار تميمٍ دخانًا ذهب في أبيات غر هذه وقال جرير بن عطية الخطفي‏.‏

غدرتم بالزبير فما وفيتم وفاء الأزد إذ منعوا زيادا فأصبح جارهم بنجاة عزٍّ وجار مجاشعٍ أمسى رمادا فلو عاقدت حبل أبي سعيدٍ لذاد القوم ما حمل النجادا وأدنى الخيل من رهج المنايا وأغشاها الأسنة والصعادا جارية بن قدامة بالجيم والياء تحتها نقطتان‏.‏

وحارثة بن بدر بالحاء المهملة وبعدها ثاء مثلثة‏.‏

وعبد الله بن خازم بالخاء المعجمة والزاي‏.‏

والمثنى ابن مخربة بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وكسر الراء المشددة وآخره باء موحدة‏.‏

 ذكر خبر الخريت بن راشد وبني ناجية

قيل‏:‏ وفي هذه السنة أظهر الخريت بن راشد الناجي الخلاف على علي فجاء إلى أمير المؤمنين وكان معه ثلاثمائة من بني ناجية خرجوا مع علي من البصرة فشهدوا معه الجمل وصفين وأقاموا معه بالكوفة إلى هذا الوقت فحضر عند علي في ثلاثين راكبًا فقال له‏:‏ يا علي والله لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك وإني غدًا مفارق لك وذلك بعد تحكيم الحكمين‏.‏

فقال له‏:‏ ثكلتك أمك‏!‏ إذًا تعصي ربك وتنكث عهدك ولا تضر إلا نفسك‏!‏ خبرني لم تفعل ذلك فقال‏:‏ لأنك حكمت وضعفت عن الحق وركنت إلى القوم الذين ظلموا فأنا عليك زارٍ وعليهم ناقم ولكم جميعًا مباين‏.‏

فقال له علي‏:‏ هلم أدارسك الكتاب وأناظرك في السنن وأفاتحك أمورًا أنا أعلم بها منك فلعلك تعرف ما أنت له الآن منكر قال‏:‏ فإني عائدٌ إليك‏.‏

قال‏:‏ لا يستهوينك الشيطان ولا يستخفنك الجهال والله لئن استرشدتني وقبلت مني لأهدينك سبيل الرشاد‏.‏

فخرج من عنده منصرفًا إلى أهله وسار من ليلته هو وأصحابه‏.‏

فلما سمع بمسيرهم علي قال‏:‏ بعدًا لهم كما بعدت ثمود‏!‏ إن الشيطان اليوم استهواهم وأضلهم وهو غدًا متبرىء منهم‏.‏

فقال له زياد بن خصفة البكري‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه لم يعظم علينا فقدهم فتأسى عليهم إنهم قل ما يزيدون في عددنا لو أقاموا ولقل ما ينقصون من عددنا بخروجهم عنا ولكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعةً كثيرة ممن يقدمون عليك من أهل طاعتك فأذن لي في اتباعهم حتى أردهم عليك‏.‏

فقال‏:‏ أتدري أين توجهوا قال‏:‏ لا ولكني أسأل وأتبع الأثر‏.‏

فقال له‏:‏ اخرج رحمك الله وانزل دير أبي موسى وأقم حتى يأتيك أمري فإن كانوا ظاهرين فإن عمالي سيكتبون بخبرهم‏.‏

فخرج زياد فأتى داره وجمع أصحابه من بكر بن وائل وأعلمهم الخبر فسار معه مائة وثلاثون رجلًا فقال‏:‏ حسبي‏.‏

ثم سار حتى أتى دير أبي موسى فنزله يومًا ينتظر أمر علي وأتى عليًا كتاب من قرظة بن كعب الأنصاري يخبره أنهم توجهوا نحو نفر وأنهم قتلوا رجلًا من الدهاقين كان أسلم‏.‏

فأرسل علي إلى زياد يأمره باتباعهم ويخبره خبرهم وأنهم قتلوا رجلًا مسلمًا ويأمره بردهم إليه فإن أبوا يناجزهم وسير الكتاب مع عبد الله بن والٍ فاستأذنه عبد الله في المسير مع زياد فأذن له وقال له‏:‏ إني لأرجو أن تكون من أعواني على الحق وأنصاري على القوم الظالمين‏.‏

قال ابن وال‏:‏ فوالله ما أحب أن لي بمقالته تلك حمر النعم‏.‏

وسار بكتاب علي إلى زياد وساروا حتى أتوا نفر فقيل إنهم ساروا نحو جرجرايا فتبعوا آثارهم حتى أدركوهم بالمذار وهم نزول قد أقاموا يومهم وليلتهم واستراحوا فأتاهم زياد وقد تقطع أصحابه وتعبوا فلما رأوهم ركبوا خيولهم وقال لهم الخريت‏:‏ أخبروني ما تريدون‏.‏

فقال له زياد وكان مجربًا رفيقًا‏:‏ قد ترى ما بنا من التعب والذي جئناك له لا يصلحه الكلام علانية ولكن ننزل ثم نخلو جميعًا فتذاكر أمرنا فإن رأيت ما جئناك به حظًا لنفسك قبلته وإن رأينا فيما نسمع منك أمرًا نرجو فيه العافية لم نرده عليك‏.‏

قال‏:‏ فانزل‏.‏فنزل زياد وأصحابه على ماء هناك وأكلوا شيئًا وعلقوا على دوابهم ووقف زياد في خمسة فوارس بين أصحابه وبين القوم وكانوا قد نزلوا أيضًا وقال زياد لأصحابه‏:‏ إن عدتنا كعدتهم وأرى أمرنا يصير إلى القتال فلا تكونوا أعجز الفريقين‏.‏

وخرج زياد إلى الخريت فسمعهم يقولون‏:‏ جاءنا القوم وهم كالون تعبون فتركناهم حتى استراحوا هذا والله سوء الرأي‏.‏

فدعاه زياد وقال له‏:‏ ما الذي نقمت على أمير المؤمنين وعلينا حتى فارقتنا فقال‏:‏ لم أرض صاحبكم إمامًا ولا سيرتكم سيرة فرأيت أن أعتزل وأكون مع من يدعو إلى الشورى فقال له زياد‏:‏ وهل يجتمع الناس على رجل يداني صاحبك الذي فارقته علمًا بالله وسنته وكتابه مع قرابته من الرسول صلى الله عليه وسلم وسابقته في الإسلام فقال له‏:‏ ذلك لا أقول لك‏.‏فقال له زياد‏:‏ ففيم قتلت ذلك الرجل المسلم فقال له‏:‏ ما أنا قتلته وإنما قتله طائفة من أصحابي‏.‏

قال‏:‏ فادفعهم إلينا‏.‏

قال‏:‏ ما لي إلى ذلك سبيلز فدعا زيادٌ أصحابه ودعا الخريت أصحابه فاقتتلوا قتالًا شديدًا تطاعنوا بالرماح حتى لم يبق رمح وتضاربوا بالسيوف حتى انحنت وعقرت عامة خيولهم وكثرت الجراحة فيهم وقتل من أصحاب زياد رجلان ومن أولئك خمسة وجاء الليل فحجز بينهما وقد كره بعضهم بعضًا وجرح زياد فسار الخريت من الليل وسار زياد إلى البصرة وأتاهم خبر الخريت أنه أتى الأهواز فنزل بجانب منها وتلاحق به ناسٌ من أصحابهم فصاروا نحو مائتين فكتب زياد إلى علي يخبرهم وأنه مقيم يداوي الجرحى وينتظر أمره‏.‏

فلما قرأ علي كتابه قام إليه معقل بن قيس فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين كان ينبغي أن يكون مع من يطلب هؤلاء مكان كل واحد منهم عشرة فإذا لحقوهم استأصلوهم وقطعوا دابرهم فأما أن يلقاهم عددهم فلعمري ليصبرن لهم فإن العدة تصبر للعدة‏.‏

فقال‏:‏ تجهز يا معقل إليهم وندب معه ألفين من أهل الكوفة منهم يزيد بن المعقل الأسدي‏.‏

وكتب علي إلى ابن عباس يأمره أن يبعث من أهل البصرة رجلًا شجاعًا معروفًا بالصلاح في ألفي رجل إلى معقل وهو أمير أصحابه حتى يأتي معقلًا فإذا لقيه كان معقل الأمير‏.‏

وكتب إلى زياد ابن خصفة يشكره ويأمره بالعود‏.‏

واجتمع على الخريت الناجي علوج من أهل الأهواز كثيرٌ أرادوا كسر الخراج ولصوصٌ وطائفةٌ أخرى من العرب ترى رأيه وطمع أهل الخراج في كسره فكسروه وأخرجوا سهل بن حنيف من فارس وكان عاملًا لعلي عليها في قول من يزعم أنه لم يمت سنة سبع وثلاثين‏.‏فقال ابن عباس لعلي‏:‏ أنا أكفيك فارس بزياد يعني ابن أبيه فأمره بإرساله إليها وتعجيل تسييره فأرسل زيادًا إليها في جمع كثير فوطىء بلاد فارس فأدوا الخراج واستقاموا وسار معقل بن قيس ووصاه علي فقال له‏:‏ اتق الله ما استطعت ولا تبغ على أهل القبلة ولا تظلم أهل الذمة ولا تتكبر فإن الله لا يحب المتكبرين‏.‏

فقدم معقل الأهواز ينتظر مدد البصرة فأبطأ عليه فسار عن الأهواز يطلب الخريت فلم يسر إلا يومًا حتى أدركه المدد مع خالد بن معدان الطائي فساروا جميعًا فلحقوهم قريب جبل من جبال رامهرمز فصف معقل أصحابه فجعل على ميمنته يزيد بن المعقل وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبي من أهل البصرة وصف الخريت أصحابه فجعل من معه من العرب ميمنةً ومن معه من أهل البلد والعلوج ميسرة ومعهم الأكراد وحرض كل واحد منهما أصحابه وحرك معقل رأسه مرتين ثم حمل في الثالثة فصبروا له ساعة ثم انهزموا فقتل أصحاب معقل منهم سبعين رجلًا من بني ناجية ومن معهم من العرب وقتلوا نحوًا من ثلاثمائة من العلوج والأكراد وانهزم الخريت بن راشد فلحق بأسياف البحر وبها جماعةٌ كثيرة من قومه فما زال يسير فيهم ويدعوهم إلى خلاف علي ويخبرهم أن الهدى في حربه حتى اتبعه منهم ناس كثير‏.‏

وأقام معقل بأرض الأهواز وكتب إلى علي بالفتح فقرأ علي الكتاب على أصحابه واستشارهم فقالوا كلهم‏:‏ نرى أن تأمر معقلًا أن يتبع آثار الفاسق حتى يقتله أو ينفيه فإنا لا نأمن أن يفسد عليك الناس‏.‏

فكتب إلى معقل يثني عليه وعلى من معه ويأمره باتباعه وقتله أو نفيه‏.‏

فسأل معقل عنه فأخبر بمكانه بالأسياف وأنه قد رد قومه عن طاعة علي وأفسد من عنده من عبد القيس وسائر العرب وكان قومه قد منعوا الصدقة عام صفين وذلك العام‏.‏

فسار إليهم معقل فأخذ على فارس وانتهى إلى أسياف البحر‏.‏

فلما سمع الخريت بمسيره قال لمن معه من الخوارج‏:‏ أنا على رأيكم وإن عليًا لم ينبغ له أن يحكم‏.‏

وقال للآخرين من أصحابه‏:‏ إن عليًا حكم ورضي فخلعه حكمه الذي ارتضاه وهذا كان الرأي الذي خرج عليه من الكوفة وإليه كان يذهب‏.‏

وقال سرًا للعثمانية‏:‏ إنا والله على رأيكم قد والله قتل عثمان مظلومًا‏.‏

فأرضى كل صنف منهم‏.‏

وقال لمن منع الصدقة‏:‏ شدوا أيديكم على صدقاتكم وصلوا بها أرحامكم‏.‏

وكان فيها نصارى كثير قد أسلموا فلما اختلف الناس قالوا‏:‏ والله لديننا الذي خرجنا منه خير من دين هؤلاء لا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء‏.‏

فقال لهم الخريت‏:‏ ويحكم‏!‏ لا ينجيكم من القتل إلا قتل هؤلاء القوم والصبر فإن حكمهم فيمن أسلم ثم ارتد أن يقتل ولا يقبلون منه توبةً ولا عذرًا‏.‏

فخدعهم جميعهم‏.‏وأتاه من كان من بني ناجية وغيرهم خلق كثير‏.‏

فلما انتهى معقل إليه نصب راية أمان وقال‏:‏ من أتاها من الناس فهو آمن إلا الخريت وأصحابه الذين حاربونا أول مرة‏.‏

فتفرق عن الخريت جل من كان معه من غير قومه وعبأ معقل أصحابه وزحف نحو الخريت ومعه قومه مسلمهم ونصرانيهم ومانع الزكاة منهم‏.‏

فقال الخريت لمن معه‏:‏ قاتلوا عن حريمكم وأولادكم فوالله لئن ظهروا عليكم ليقتلنكم وليسبنكم‏.‏فقال له رجل من قومه‏:‏ هذا والله ما جرته علينا يدك ولسانك‏.‏

فقال‏:‏ سبق السيف العذل‏.‏

وسار معقل في الناس يحرضهم ويقول‏:‏ أيها الناسش ما ترون أفضل مما سبق لكم من الأجر العظيم إن الله ساقكم إلى قوم منعوا الصدقة وارتدوا عن الإسلام ونكثوا البيعة ظلمًان فأشهد لمن قتل منكم بالجنة ومن بقي منكم فإن الله مقر عينه بالفتح‏.‏

ثم حمل معقل وجميع من معه فقاتلوا قتالًا شديدًا وصبروا له ثم إن النعمان بن صبهان الراسبي بصر بالخريت فحمل عليه فطعنه فصرع عن دابته ثم اختلفا ضربتين فقتله النعمان وقتل معه في المعركة سبعون ومائة رجل وذهب الباقون يمينًا وشمالًا وسبى معقل من أدرك من حريمهم وذرياتهم وأخذ رجالًا كثيرًا فأما من كان مسلمًا فخلاه وأخذ بيعته وترك له عياله وأما من كان ارتد فعرض عليهم الإسلام فرجعوا فخلى سبيلهم وسبيل عيالهم إلا شيخًا كبيرًا نصرانيًا منهم يقال له الرماحسن لم يسلم فقتله وجمع من منع الصدقة وأخذ منهم صدقة عامين وأما النصارى وعيالهم فاحتملهم مقبلًا بهم وأقبل المسلمون معهم يشيعونهم فلما ودعوهم بكى الرجال والنساء بعضهم إلى بعض حتى رحمهم الناس‏.‏

وكتب معقل إلى علي بالفتح ثم أقبل بهم حتى مر على مصقلة بن هبيرة الشيباني وهو عامل علي على أردشير خره وهم خمسمائة إنسان فبكى النساء والصبيان وصاح الرجال‏:‏ يا أبا الفضل‏!‏ يا حامي الرجال ومأوى المعضب وفكاك العناة امنن علينا واشترنا وأعتقنا‏!‏ فقال

مصقلة‏:‏ أقسم بالله لأتصدقن عليكم‏!‏ إن الله يجزي المتصدقين‏.‏

فبلغ قوله معقلًا فقال‏:‏ والله لو أعلم أنه قالها توجعًا عليهم وإزراء علينا لضربت عنقه ولو كان في ذلك تفاني تميم وبكر‏.‏

ثم إن مصقلة اشتراهم من معقل بخمسمائة ألف فقال له معقل‏:‏ عجل المال إلى أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ أنا أبعث الآن ببعضه ثم كذلك حتى لا يبقى منه شيء‏.‏

وأقبل معقل إلى علي فأخبره بما كان منه فاستحسنه وبلغ عليًا أن مصقلة أعتق الأسرى ولم يسألهم أن يعينوه بشيء فقال‏:‏ ما أظن مصقلة إلا قد تحمل حمالة سترونه عن قريب منها مبلدًا وكتب إليه يطلب منه المال أو يحضر عنده فحضر عنده وحمل من المال مائتي ألف‏.‏

قال ذهل بن الحارث‏:‏ فاستدعاني ليلةً فطعمنا ثم قال‏:‏ إن أمير المؤمنين يسألني هذا المال ولا أقدر عليه‏.‏

فقلت‏:‏ والله لو شئت ما مضت جمعة حتى تحمله‏.‏

فقال‏:‏ والله ما كنت لأحملها قومي أما والله لو كان ابن هند ما طالبني بها ولو كان ابن عفان لوهبها لي ألم تره أطعم الأشعث بن قيس كل سنة من خراج أذربيجان مائة ألف قال‏:‏ فقلت‏:‏ إن هذا لا يرى ذلك الرأي ولا يترك منها شيئًا‏.‏

فهرب مصقلة من ليلته فلحق بمعاوية وبلغ عليًا ذلك فقال‏:‏ ما له ترحه الله فعل فعل السيد وفر فرار العبد وخان خيانة الفاجر‏!‏ أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه فإن وجدنا له شيئًا أخذناه وإلا تركناه‏.‏

ثم سار علي إلى داره فهدمها وأجاز عتق السبي وقال‏:‏ أعتقهم مبتاعهم وصارت أثمانهم دينًا على معتقهم‏.‏

وكان أخوة نعيم بن هبيرة شيعة لعلي فكتب إليه مصقلة من الشام مع رجل من نصارى تغلب اسمه حلوان يقول له‏:‏ إن معاوية قد وعدك الإمارة والكرامة فأقبل ساعة يلقاك رسولي والسلام‏.‏

فأخذه مالك بن كعب الأرحبي فسرحه إلى علي فقطع يده فمات وكتب نعيم إلى مصقلة يقول‏:‏ لا ترمين هداك الله معترضًا بالظن منك فما بالي وحلوانا ذاك الحريص على ما نال من طمع وهو البعيد فلا يحزنك إن خانا ماذا أردت إلى إرساله سفهًا ترجو سقاط امرئ لم يلف وسنانا قد كنت في منظرٍ عن ذا ومستمعٍ تحمي العراق وتدعى خير شيبانا حتى تقحمت أمرًا كنت تكرهه للراكبين له سرًا وإعلانا عرضته لعلي إنه أسدٌ يمشي العرضنة من آساد خفانا لو كنت أديت مال القوم مصطبرًا للحق أحييت أحيانا وموتانا لكن لحقت بأهل الشام ملتمسًا فضل ابن هندٍ وذاك الرأي أشجانا أصبحت تبغضك الأحياء قاطبةً لم يرفع الله بالبغضاء إنسانا فلما وقع الكتاب إليه علم أنه قد هلك وأتاه التغلبيون فطلبوا منه دية صاحبهم فوداه لهم‏.‏وقال بعض الشعراء في بني ناجية‏:‏ سما لكم بالخيل قودًا عوابسًا أخو ثقةٍ ما يبرح الدهر غازيا فصحبكم في رجله وخيوله بضرب ترى منه المدجج هاويا فأصبحتم من بعد كبرٍ ونخوةٍ عبيد العصا لا تمنعون الذراريا وقال مصقلة بن هبيرة‏:‏ لعمري لئن عاب أهل العراق علي انتعاش بني ناجيه لأعظم من عتقهم رقهم وكفي بعتقهم ماليه وزايدت فيهم لإطلاقهم وغاليت إن العلى غاليه ذكر أمر الخوارج بعد النهروان لما قتل أهل النهروان خرج أشرس بن عوف الشيباني على علي بالدسكرة في مائتين ثم سار إلى الأنبار فوجه إليه علي الأبرش بن حسان في ثلاثمائة فواقعه فقتل أشرس في ربيع الآخر سنة ثم خرج هلال بن علفة من تيم الرباب ومعه أخوه مجالد فأتى ماسبذان فوجه إليه علي معقل بن قيس الرياحي فقتله وقتل أصحابه وهم أكثر من مائتين وكان قتلهم في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين‏.‏

ثم خرج الأشهب بن بشر وقيل الأشعث وهو من بجيلة في مائة وثمانين رجلًان فأتى المعركة التي أصيب فيها هلال وأصحابه فصلى عليهم ودفن من قدر عليه منهم فوجه إليهم علي جارية بن قدامة السعدي وقيل حجر ابن عدي فأقبل إليهم الأشهب فاقتتلا بجرجرايا من أرض جوخى فقتل الأشهب وأصحابه في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين‏.‏

ثم خرج سعيد بن قفل التيمي من تيم الله بن ثعلبة في رجب بالبندنيجين ومعه مائتا رجل فأتى درزنجان وهي من المدائن على فرسخين فخرج إليهم سعد بن مسعود فقتلهم في رجب سنة ثمان وثلاثين‏.‏

ثم خرج أبو مريم السعدي التميمي فأتى شهرزور وأكثر من معه من الموالي وقيل لم يكن معه من العرب غير ستة نفر هو أحدهم واجتمع معه مائتا رجل وقيل أربعمائة وعاد حتى نزل على خمسة فراسخ من الكوفة فأرسل إليه علي يدعوه إلى بيعته ودخول الكوفة فلم يفعل وقال‏:‏ ليس بيننا غير الحرب‏.‏

فبعث إليه علي شريح بن هانىء في سبعمائة فحمل الخوارج على شريح وأصحابه فانكشفوا وبقي شريح في مائتين فانحاز إلى قرية فتراجع إليه بعض أصحابه ودخل الباقون الكوفة فخرج علي بنفسه وقدم بين يديه جارية بن قدامة السعدي فدعاهم جارية إلى طاعة علي وحذرهم القتل فلم يجيبوا ولحقهم علي أيضًا فدعاهم فأبوا عليه وعلى أصحابه فقتلهم أصحاب علي ولم يسلم منهم غير خمسين رجلًا استأمنوا فآمنهم‏.‏

وكان في الخوارج أربعون رجلًا جرحى فأمر علي بإدخالهم الكوفة ومداواتهم حتى برأوا‏.‏

وكان قتلهم في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وكانوا من أشجع من قائل من الخوارج ولجرأتهم قاربوا الكوفة‏.‏

 ذكر عدة حوادث

وحج بالناس في هذه السنة قثم بن العباس من قبل علي وكان عامله على مكة وكان على اليمن عبيد الله بن عباس وعلى البصرة عبد الله بن عباس وعلى خراسان خليد بن قرة اليربوعي وقيل كان ابن أبزى وأما الشام ومصر فكان بهما معاوية وعماله‏.‏

وفي هذه السنة مات صهيب بن سنان في قول بعضهم وكان عمره سبعين سنة ودفن بالبقيع‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وثلاثين

إلى بلاد أمير المؤمنين وفي هذه السنة فرق معاوية جيوشه في العراق في أطراف علي فوجه النعمان بن بشير في ألف رجل إلى عين التمر وفيها مالك بن كعب مسلحة لعلي في ألف رجل وكان مالك قد أذن لأصحابه فأتوا الكوفة ولم يبق معه إلا مائة رجل فلما سمع بالنعمان كتب إلى أمير المؤمنين يخبره ويستمده فخطب علي الناس وأمرهم بالخروج إليه فتثاقلوا وواقع مالكٌ النعمان وجعل جدار القرية في ظهور أصحابه وكتب مالك إلى مخنف بن سليم يستعينه وهو قريب منه واقتتل مالك والنعمان أشد قتال فوجه مخنف ابنه عبد الرحمن في خمسين رجلًا فانتهوا إلى مالك وقد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا فلما رآهم أهل الشام انهزموا عند المساء وظنوا أن لهم مدادًا وتبعهم مالك فقتل منهم ثلاثة نفر‏.‏

ولما تثاقل أهل الكوفة عن الخروج إلى مالك صعد علي المنبر فخطبهم ثم قال‏:‏ يا أهل الكوفة كلما سمعتم بجمع من أهل الشام أظلكم انجحر كل امرئ منكم في بيته وأغلق عليه بابه انجحار الضب في جحره والضبع في وجارها المغرور من غررتموه ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب لا أحرار عند النداء ولا إخوان عند النجاء‏!‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏!‏ ماذا منيت به منكم ووجه معاوية في هذه السنة أيضًا سفيان بن عوف في ستة آلاف رجل وأمره أن يأتي هيت فيقطعها ثم يأتي الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها‏.‏

فأتى هيت فلم يجد بها أحدًا ثم أتى الأنبار وفيها مسلحة لعلي تكون خمسمائة رجل وقد تفرقوا ولم يبق منهم إلا مائتا رجل وكان سبب تفرقهم أنه كان عليهم كميل ابن زياد فبلغه أن قومًا بقرقيسيا يريدون الغارة على هيت فسار إليهم بغير أمر علي فأتى أصحاب سفيان وكميل غائبٌ عنها فأغضب ذلك عليًا على كميل فكتب إليه ينكر ذلك عليه وطمع سفيان في أصحاب علي لقلتهم فقاتلهم فصبر أصحاب علي ثم قتل صاحبهم وهو أشرس بن حسان البكري وثلاثون رجلًا واحتملوا ما في الأنبار من أموال أهلها ورجعوا إلى معاوية وبلغ الخبر عليًا فأرسل في طلبهم فلم يدركوا‏.‏

وفيها أيضًا وجه معاوية عبد الله بن مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر الفزاري في ألف وسبعمائة رجل إلى تيماء وأمره أن يصدق من مر به من أهل البوادي ويقتل من امتنع ففعل ذلك وبلغ مكة والمدينة وفعل ذلك واجتمع إليه بشرٌ كثيرٌ من قومه وبلغ ذلك عليًا فأرسل المسيب بن نجبة الفزاري في ألفي رجل فلحق عبد الله بتيماء فاقتتلوا حتى زالت الشمس قتالًا شديدًا وحمل المسيب على ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات لا يريد قتله ويقول له‏:‏ النجاء النجاء‏!‏ فدخل ابن مسعدة وجماعة معه الحصن وهرب الباقون نحو الشام وانتهب الأعراب إبل الصدقة التي كانت مع ابن مسعدة وحصره ومن معه ثلاثة أيام ثم ألقى الحطب في الباب وحرقه فلما رأوا الهلاك أشرفوا عليه وقالوا‏:‏ يا مسيب قومك فرق لهم وأمر بالنار فأطفئت وقال لأصحابه‏:‏ قد جاءتني عيوني فأخبروني أن جندًا قد أتاكم من الشام‏.‏

فقال له عبد الرحمن ابن شبيب‏:‏ سرحني في طلبهم فأبى ذلك عليه فقال‏:‏ غششت أمير المؤمنين وداهنت في أمرهم‏.‏

وفيها أيضًا وجه معاوية الضحاك بن قيس وأمره أن يمر بأسفل واقصة ويغير على كل من مر به ممن هو في طاعة علي من الأعراب وأرسل ثلاثة آلاف رجل معه فسار الناس وأخذ الأموال ومضى إلى الثعلبية وقتل وأغار على مسلحة علي وانتهى إلى القطقطانة‏.‏

فلما بلغ ذلك عليًا أرسل إليه حجر بن عدي في أربعة آلاف وأعطاهم خمسين درهمًا خمسين درهمًا فلحق الضحاك بتدمر فقتل منهم تسعة عشر رجلًا وقتل من أصحابه رجلان وحجز بينهما الليل فهرب الضحاك وأصحابه ورجع حجر ومن معه‏.‏

وفي هذه السنة سار معاوية بنفسه حتى شارف دجلة ثم نكص راجعًا‏.‏

واختلف فيمن حج بالناس هذه السنة فقيل‏:‏ حج بالناس عبيد الله بن عباس من قبل علي وقيل‏:‏ بل حج عبد الله أخوه وذلك باطل فإن عبد الله بن عباس لم يحج في خلافة علي وإنما كان على هذه السنة على الحج عبيد الله بن عباس وبعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي فاختلف عبيد الله ويزيد بن شجرة واتفقا على أن يحج بالناس شيبة بن عثمان وقيل‏:‏ إن الذي حج من جانب علي قثم بن العباس وكان عمال علي على البلاد من تقدم ذكرهم‏.‏

 ذكر مسير يزيد بن شجرة إلى مكة

وفي هذه السنة دعا معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي وهو من أصحابه فقال له‏:‏ إني أريد أن أوجهك إلى مكة لتقيم للناس الحج وتأخذ لي البيعة بمكة وتنفي عنها عامل علي‏.‏

فأجابه إلى ذلك وسار إلى مكة في ثلاثة آلاف فارس وبها قثم بن العباس عامل علي فلما سمع به قثم خطب أهل مكة وأعلمهم بمسير الشاميين ودعاهم إلى حربهم فلم يجيبوه بشيء وأجابه شيبة بن عثمان العبدري بالسمع والطاعة فعزم قثم على مفارقة مكة واللحاق ببعض شعابها ومكاتبة أمير المؤمنين بالخبر فإن أمده بالجيوش قاتل الشاميين فنهاه أبو سعيد الخدري عن مفارقة مكة وقال له‏:‏ أقم فإن رأيت منهم القتال وبك قوة فاعمل برأيك وإلا فالمسير عنها أمامك‏.‏ فأقام وقدم الشاميون ولم يعرضوا لقتال أحد وأرسل قثم إلى أمير المؤمنين يخبره فسير جيشًا فيهم الريان بن ضمرة بن هوذة بن علي الحنفي وأبو الطفيل أول ذي الحجة وكان قدوم ابن شجرة قبل التروية بيومين فنادى في الناس‏:‏ أنتم آمنون إلا من قاتلنا ونازعنا‏.‏

واستدعى أبا سعيد الخدري وقال له‏:‏ إني أريد الإلحاد في الحرم ولو شئت لفعلت لما فيه أميركم من الضعف فقل له يعتزل الصلاة بالناس وأعتزلها أنا ويختار الناس رجلًا يصلي بهم‏.‏

فقال أبو سعيد لقثم ذلك فاعتزل الصلاة واختار الناس شيبة بن عثمان فصلى بهم وحج بهم فلما قضى الناس حجهم رجع يزيد إلى الشام وأقبل خيل علي فأخبروا بعود أهل الشام فتبعوهم وعليهم معقل بن قيس فأدروهم وقد رحلوا عن وادي القرى فظفروا بنفر منهم فأخذوهم أسارى وأخذوا ما معهم ورجعوا بهم إلى أمير المؤمنين ففادى بهم أسارى كانت له عند معاوية‏.‏الرهاوي منسوب إلى الرهاء‏:‏ قبيلة من العرب وقد ضبطه عبد الغني ابن سعيد بفتح الراء‏:‏ قبيلة مشهورة وأما المدينة فبضم الراء‏.‏

 ذكر غارة أهل الشام على أهل الجزيرة

وفيها سير معاوية عبد الرحمن بن قباث بن أشيم إلى بلاد الجزيرة وفيها شبيب بن عامر جد الكرماني الذي كان بخراسان وكان شبيب بنصيبين فكتب إلى كميل بن زياد وهو بهيت يعلمه خبرهم فسار كميل إليه نجدة له في ستمائة فارس فأدركوا عبد الرحمن ومعه معن بن

يزيد السلمي فقاتلهما كميل وهزمهما فغلب على عسكرهما وأكثر القتل في أهل الشام وأمر أن لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح وقتل من أصحاب كميل رجلان وكتب إلى علي بالفتح فجزاه خيرًا وأجابه جوابًا حسنًا ورضي عنه وكان ساخطًا عليه لما تقدم ذكره‏.‏

وأقبل شبيب بن عامر من نصيبين فرأى كميلًا قد أوقع بالقوم فهنأه بالظفر واتبع الشاميين فلم يلحقهم فعبر الفرات وبث خيله فأغارت على أهل الشام حتى بلغ بعلبك فوجه معاوية إليه حبيب بن مسلمة فلم يدركه ورجع شبيب فأغار على نواحي الرقة فلم يدع للعثمانية بها ماشية إلا استاقها ولا خيلًا ولا سلاحًا إلا أخذه وعاد إلى نصيبين وكتب إلى علي فكتب إليه علي ينهاه عن أخذ أموال الناس إلا الخيل والسلاح الذي يقاتلون به وقال‏:‏ رحم الله شبيبًا لقد أبعد الغارة وعجل الانتصار‏.‏

 ذكر غارة الحارث بن نمر التنوخي

ولما قدم يزيد بن شجرة على معاوية وجه الحارث بن نمر التنوخي إلى الجزيرة ليأتيه بمن كان في طاعة علي فأخذ من أهل دارا سبعة نفر من بني تغلب وكان جماعة من بني تغلب قد فارقوا عليًا إلى معاوية فسألوه إطلاق أصحابهم فلم يفعل فاعتزلوه أيضًا وكتب معاوية إلى علي

ليفاديه بمن اسر معقل بن قيس من أصحاب يزيد بن شجرة فسيرهم علي إلى معاوية وأطلق معاوية هؤلاء وبعث علي رجلًا من خثعم يقال له عبد الرحمن إلى ناحية الموصل ليسكن الناس فلقيه أولئك التغلبيون الذين اعتزلوا معاوية وعليهم قريع بن الحارث التغلبي فتشاتموا ثم اقتتلوا فقتلوه فأراد علي أن يوجه إليهم جيشًا فكلمته ربيعة وقالوا‏:‏ هم معتزلون لعدوك داخلون في طاعتك وإنما قتلوه خطأ‏.‏فأمسك عنهم‏.‏

 ذكر أمر ابن العشبة

بعث معاوية زهير بن مكحول العامري من عامر الأجدار إلى السماوة وأمره أن يأخذ صدقات الناس وبلغ ذلك عليًا فبعث ثلاثة نفر‏:‏ جعفر بن عبد الله الأشجعي وعروة بن العشبة والجلاس بن عمير الكلبيين ليصدقوا من في طاعته من كلب وبكر بن وائل فوافوا زهيرًا فاقتتلوا فانهزم أصحاب علي وقتل جعفر بن عبد الله ولحق ابن العشبة بعلي فعنفه وعلاه بالدرة فغضب ولحق بمعاوية وكان زهير قد حمل ابن العشبة على فرس فلذلك اتهمه‏.‏

وأما الجلاس فإنه مر براع فأخذ جبته وأعطاه جبة خز فأدركته الخيل فقالوا‏:‏ أين أخذ هؤلاء الترابيون فأشار إليهم‏:‏ أخذوا ها هنا ثم أقبل إلى الكوفة‏.‏

وبعث معاوية مسلم بن عقبة المري إلى دومة الجندل وكان أهلها قد امتنعوا من بيعة علي ومعاوية جميعًا فدعاهم إلى طاعة معاوية وبيعته فامتنعوا وبلغ ذلك عليًا فسير مالك بن كعب الهمداني في جمع إلى دومة الجندل فلم يشعر مسلم إلا وقد وافاه مالك فاقتتلوا يومًا ثم انصرف مسلم منهزمًا وأقام مالك أيامًا يدعو أهل دومة الجندل إلى البيعة لعلي فلم يفعلوا قالوا‏:‏ لا نبايع حتى يجتمع الناس على إمام‏.‏ فانصرف وتركهم‏.‏

وفيها توجه الحارث بن مرة العبدي إلى بلاد السند غازيًا متطوعًا بأمر أمير المؤمنين علي فغنم وأصاب غنائم وسبيًا كثيرًا وقسم في يوم واحد ألف رأس وبقي غازيًا إلى أن قتل بأرض القيقان هو ومن معه إلا قليلًا سنة اثنتين وأربعين أيام معاوية‏.‏

 ذكر ولاية زياد بن أبيه بلاد فارس

وفي هذه السنة ولى علي زيادًا كرمان وفارس‏.‏

وسبب ذلك أنه لما قتل ابن الحضرمي واختلف الناس على علي طمع أهل فارس وكرمان في كسر الخراج فطمع أهل كل ناحية وأخرجوا عاملهم وأخرج أهل فارس سهل بن حنيف فاستشار علي الناس فقال له جارية بن قدامة‏:‏ ألا أدلك يا أمير المؤمنين على رجل صلب الرأي عالم بالسياسة كافٍ لما ولي قال‏:‏ من هو قال‏:‏ زياد‏.‏

فأمر علي ابن عباس أن يولي زيادًا فسيره إليها في جمع كثير فوطىء بهم أهل فارس وكانت قد اضطرمت فلم يزل يبعث إلى رؤويسهم يعد من ينصره ويمنيه ويخوف من امتنع عليه وضرب بعضهم ببعض فدل بعضهم على عورة بعضٍ وهربت طائفة وأقامت طائفة فقتل بعضهم بعضًا وصفت له فارس ولم يلق منهم جمعًا ولا حربًان وفعل مثل ذلك بكرمان‏.‏

ثم رجع إلى فارس وسكن الناس واستقامت له ونزل إصطخر وحصن قلعة تسمى قلعة زياد قريب إصطخر ثم تحصن فيها بعد ذلك منصور اليشكري فهي تسمى قلعة منصور‏.‏

وقيل إن ابن عباس أشار بولايته وقد تقدم ذكره‏.‏

وفيها مات أبو مسعود الأنصاري البدري وقيل في أول خلافة معاوية وقيل غير ذلك ولم يشهد بدرًا وإنما قيل له بدري لأنه نزل ماء بدر وانقرض عقبه‏.‏

 ثم دخلت سنة أربعين

 ذكر سرية بسر بن أبي أرطأة إلى الحجاز واليمن

في هذه السنة بعث معاوية بسر بن أبي أرطاة وهو من عامر بن لؤي في ثلاثة آلاف فسار حتى قدم المدينة وبها أبو أيوب الأنصاري عامل علي عليها فهرب أبو أيوب فأتى عليًا بالكوفة ودخل بسر إلى المدينة ولم يقاتله أحد فصعد منبرها فنادى عليه‏:‏ يا دينار يا نجار يا زريق‏!‏ وهذه بطون من الأنصار شيخي شيخي عهدته ها هنا بالأمس فأين هو يعني عثمان‏.‏

ثم قال‏:‏ والله لولا ما عهد إلي معاوية ما تركت بها محتلمًا إلا قتلته‏.‏فأرسل إلى بني سلمة فقال‏:‏ والله ما لكم عندي أمان حتى تأتوني بجابر بن عبد الله‏!‏ فانطلق جابر إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها‏:‏ ماذات ترين إن هذه بيعة ضلالة وقد خشيت أن أقتل‏.‏

قالت‏:‏ أرى أن تبايع فإني قد أمرت ابني عمر وختني ابن زمعة أن يبايعا وكانت ابنتها زينب تحت ابن زمعة فأتاه جابر فبايعه‏.‏

وهدم بالمدينة دورًا ثم سار إلى مكة فخاف أبو موسى الأشعري أن يقتله فهرب منه وأكره الناس على البيعة ثم سار إلى اليمن وكان عليها عبيد الله ابن عباس عاملًا لعلي فهرب منه إلى علي بالكوفة واستخلف علي على اليمن عبد الله بن عبد المدان الحارثي فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه وأخذ ابنين لعبيد الله بن عباس صغيرين هما‏:‏ عبد الرحمن وقثم فقتلهما وكانا عند رجل من كنانة بالبادية فلما أراد قتلهما قال له الكناني‏:‏ لم تقتل هذين ولا ذنب لهما فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما‏!‏ فقتله وقتلهما بعده‏.‏

وقيل إن الكناني أخذ سيفه وقاتل عن الغلامين وهو يقول‏:‏ الليث من يمنع حافات الدار ولا يزال مصلتًا دون الجار وقاتل حتى قتل‏.‏

وأخذ الغلامين فدفنهما‏.‏

فخرج نسوة من بني كنانة فقالت امرأة منهن‏:‏ يا هذا‏!‏ قتلت الرجال فعلام تقتل هذين والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية والإسلام‏!‏ والله يا ابن أبي أرطاة إن سلطانًا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء‏!‏ وقتل بسر في ميسره ذلك جماعةً من شيعة علي باليمن وبلغ عليًا الخبر فأرسل جارية بن قدامة السعدي في ألفين ووهب بن مسعود في ألفين فسار جارية حتى أتى نجران فقتل بها ناسًا من شيعة عثمان وهرب بسر وأصحابه منه واتبعه جارية حتى أتى مكة فقال‏:‏ بايعوا أمير المؤمنين‏.‏

فقالوا‏:‏ قد هلك فمن نبايع قال‏:‏ لمن بايع له أصحاب علي‏.‏

فبايعوا خوفًا منه‏.‏

ثم سار حتى أتى المدينة وأبو هريرة يصلي بالناس فهرب منه فقال جارية‏:‏ لو وجدت أبا سنور لقتلته‏.‏

ثم قال لأهل المدينة‏:‏ بايعوا الحسن بن علي فبايعوه وأقام يومه ثم عاد إلى الكوفة ورجع أبو هريرة يصلي بهم‏.‏

وكانت أم ابني عبيد الله أم الحكم جويرية بنت خويلد بن قارظ وقيل‏:‏ عائشة بنت عبد الله بن عبد المدان‏.‏

فلما قتل ولداها ولهت عليهما فكانت لا تعقل ولا تصفي ولا تزال تنشدهما في المواسم فتقول‏:‏ يا من أحس بنيي اللذين هما كالدرتين تشظى عنهما الصدف يا من أحس بنيي اللذين هما مخ العظام فمخي اليوم مزدهف يا من أحس بنيي اللذين هما قلبي وسمعي فقلبي اليوم مختطف منن ذل والهةٍ حيرى مدلهةٍ على صبيين ذلا إذ غدا السلف نبئت بسرًا وما صدقت ما زعموا من إفكهم ومن القول الذي اقترفوا أحنى على ودجي إبني مرهفةً من الشفار كذاك الإثم يقترف وهي أبيات مشهورة فلما سمع أمير المؤمنين بقتلهما جزع جزعًا شديدًا ودعا على بسر فقال‏:‏ اللهم اسلبه دينه وعقله‏!‏ فاصابه ذلك وفقد عقله فكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتى بسيف من خشب ويجعل بين يديه زق منفوخ فلا يزال يضربه ولم يزل كذلك حتى مات‏.‏

ولما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه عبيد الله بن عباس وعنده بسر فقال لبسر‏:‏ وددت أن الأرض أنبتتني عندك حين قتلت ولدي‏.‏

فقال بسر‏:‏ هاك سيفي‏.‏

فأهوى عبيد الله ليتناوله فأخذه معاوية وقال لبسر‏:‏ أخزاك الله شيخًا قد خرفت‏!‏ والله لو تمكن منه لبدأ بي‏!‏ قال عبيد الله‏:‏ أجل ثم ثنيت به‏.‏

سلمة بكسر اللام‏:‏ بطن من الأنصار‏.‏

وقيل‏:‏ إن مسير بسر إلى الحجاز كان سنة اثنتين وأربعين فأقام بالمدينة شهرًا يستعرض الناس لا يقال له عن أحد إنه شرك في دم عثمان إلا قتله‏.‏

وفيها جرت مهادنةٌ بين علي ومعاوية بعد مكاتبات طويلة على وضع الحرب ويكون لعلي العراق ولمعاوية الشام لا يدخل أحدهما بلد الآخر بغارة‏.‏

بسر بضم الباء الموحدة والسين المهملة‏.‏

زريق بالزاي والراء‏:‏ قبيلة من الأنصار أيضًا‏.‏

وجارية بالجيم والراء‏.‏

 ذكر فراق ابن عباس البصرة

في هذه السنة خرج عبد الله بن عباس من البصرة ولحق بمكة في قول أكثر أهل السير وقد أنكر ذلك بعضهم وقال‏:‏ لم يزل عاملًا عليها لعلي حتى قتل علي وشهد صلح الحسن مع معاوية ثم خرج إلى مكة‏.‏

والأول أصح‏.‏

وإنما كان الذي شهد صلح الحسن عبيد الله بن عباس‏.‏

وكان سبب خروجه أنه مر بأبي الأسود فقال‏:‏ لو كنت من البهائم لكنت جملًا ولو كنت راعيًا لما بلغت المرعى‏.‏

فكتب أبو الأسود إلى علي‏:‏ أما بعد فإن الله عز وجل جعلك واليًا مؤتمنًا وراعيًا مستوليًا وقد بلوناك فوجدناك عظيم الأمانة ناصحًا للرعية توفر لهم فيئهم وتكف نفسك عن دنياهم ولا تأكل أموالهم ولا ترتشي في أحكامهم وإن ابن عمك قد أكل ما تحت يديه بغير علمك ولم يسعني كتمانك رحمك الله فانظر فيما هناك واكتب إلي برأيك فيما أحببت والسلام‏.‏

فكتب إليه علي‏:‏ أما بعد فمثلك نصح الإمام والأمة ووالى على الحق وقد كتبت إلى صاحبك فيما كتبت إلي ولم أعلمه بكتابك فلا تدع إعلامي بما يكون بحضرتك مما النظر فيه صلاح للأمة فإنك بذلك جدير وهو حق واجب عليك والسلام‏.‏

وكتب إلى ابن عباس في ذلك فكتب إليه ابن عباس أما بعد فإن الذي بلغك باطلٌ وإني لما تحت يدي لضابطٌ وله حافظٌ فلا تصدق الظنين والسلام‏.‏

فكتب إليه علي‏:‏ أما بعد فأعلمني ما أخذت من الجزية ومن أين أخذت وفيما وضعت‏.‏

فكتب إليه ابن عباس‏:‏ أما بعد فقد فهمت تعظيمك مرزأة ما بلغك إني رزأته من أهل هذه البلاد فباعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعنٌ عنه والسلام‏.‏

واستدعى أخواله من بني هلال بن عامر فاجتمعت معه قيس كلها فحمل مالًا وقال‏:‏ هذه أرزاقنا اجتمعت فتبعه أهل البصرة فلحقوه بالطف يريدون أخذ المال فقالت قيس‏:‏ والله لا يوصل إلينا وفينا عين تطرف‏!‏ فقال صبرة بن شيمان الحداني‏:‏ يا معشر الأزد إن قيسًا إخواننا وجيراننا وأعواننا على العدو وإن الذي يصيبكم من هذا المال لقليل وهو لكم خير من المال‏.‏

فأطاعوه فانصرفوا وانصرفت معهم بكر وعبد اليس وقاتلهم بنو تميم فنهاهم الأحنف فلم يسمعوا منه فاعتزلهم وحجز الناس بينهم ومضى ابن عباس إلى مكة‏.‏

 ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

وفي هذه السنة قتل علي في شهر رمضان لسبع عشرة خلت منه وقيل‏:‏ لإحدى عشرة وقيل‏:‏ لثلاث عشرة بقيت منه وقيل‏:‏ في شهر ربيع الآخر سنة أربعين‏.‏

والأول أصح‏.‏

قال أنس بن مالك‏:‏ مرض علي فدخلت عليه وعنده أبو بكر وعمر فجلست عنده فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فنظر في وجهه فقال له أبو بكر وعمر‏:‏ يا نبي الله ما نراه إلا ميتًا‏.‏

فقال‏:‏ لن يموت هذا الآن ولن يموت حتى يملأ غيظًا ولن يموت إلا مقتولًا‏.‏

وقيل من غير وجه‏:‏ إن عليًا كان يقول‏:‏ ما يمنع أشاقكم أن يخضب هذه من هذه يعني لحيته من دم رأسه‏.‏

وقال عثمان بن المغيرة‏:‏ كان علي لما دخل رمضان يتعشى ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين وليلة عند أبي جعفر لا يزيد على ثلاث لقم يقول‏:‏ أحب أن يأتيني أمر الله وأنا خميص وإنما هي ليلة أو ليلتان فلم تمض ليلة حتى قتل‏.‏

وقال الحسن بن كثير عن أبيه قال‏:‏ خرج علي من الفجر فأقبل الإوز يصحن في وجهه فطردوهن عنه فقال‏:‏ ذروهن فإنهن نوائح فضربه ابن ملجم في ليلته‏.‏

وقال الحسن بن علي يوم قتل علي‏:‏ خرجت البارحة وأبي يصلي في مسجد داره فقال لي‏:‏ يا بني إني بت أوقظ أهلي لأنها ليلة الجمعة صبيحة بدر فملكتني عيناي فنمت فسنح لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد قال‏:‏ والأود العوج واللدد الخصومات - فقال لي‏:‏ ادع عليهم‏.‏

فقلت‏:‏ اللهم أبدلني بهم من هو خير منهم وأبدلهم بي من هو شر مني‏!‏ فجاء ابن النباج فآذنه بالصلاة فخرج وخرجت خلفه فضربه ابن ملجم فقتله وكان كرم الله وجهه إذا رأى ابن ملجم قال‏:‏ أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليك من مراد وكان سبب قتله أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي والبرك بن عبد الله التميمي الصريمي وقيل اسم البرك الحجاج وعمرو بن بكر التميمي السعدي وهم من الخوارج اجتمعوا فتذاكروا أمر الناس وعابوا عمل ولاتهم ثم ذكروا أهل النهر فترحموا عليهم وقالوا‏:‏ ما نصنع بالبقاء بعدهم فلو شرينا أنفسنا وقتلنا أئمة الضلالة وأرحنا منهم البلاد‏!‏ فقال ابن ملجم‏:‏ أنا أكفيكم عليًا وكان من أهل مصر‏.‏

وقال البرك بن عبد الله‏:‏ أنا أكفيكم معاوية‏.‏

وقال عمرو بن بكر‏:‏ أنا أكفيكم عمرو بن العاص‏.‏

فتعاهدوا أن لا ينكص أحدهم عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونه وأخذوا سيوفهم فسموها واتعدوا لسبع عشرة من رمضان وقصد كل رجل منهم الجهة التي يريد فأتى ابن ملجم الكوفة فلقي أصحابه بالكوفة وكتمهم أمره ورأى يومًا أصحابًا له من تيم الرباب وكان علي قد قتل منهم يوم النهر عدة فتذاكروا قتلى النهر ولقي معهم امرأة من تيم الرباب اسمها قطام‏.‏

وقد قتل أبوها وأخوها يوم النهر وكانت فائقة الجمال‏.‏

فلما رآها أخذت قلبه فخطبها‏.‏

فقالت‏:‏ لا أتزوجك حتى تشتفي لي‏.‏

فقال‏:‏ وما تريدين قالت‏:‏ ثلاثة آلاف وعبدًا وقينةً وقتل علي‏.‏

فقال‏:‏ أما قتل علي فما أراك ذكرته وأنت تريدينني‏.‏

قالت‏:‏ بلى التمس غرته فإن أصبته شفيت نفسك ونفسي ونفعك العيش معي وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وما فيها‏.‏

قال‏:‏ والله ما جاء بي إلا قتل علي فلك ما سألت‏.‏

قالت‏:‏ سأطلب لك من يشد ظهرك ويساعدك‏.‏

وبعثت إلى رجل من قومها اسمه وردان وكلمته فأجابها وأتى ابن ملجم رجلًا من أشجع اسمه شبيب بن بجرة فقال له‏:‏ هل لك في شرف الدنيا والآخرة قال‏:‏ وماذا قال‏:‏ قتل علي‏.‏

قال شبيب‏:‏ ثكلتك أمك‏!‏ لقد جئت شيئًا إدًا‏!‏ كيف تقدر على قتله قال‏:‏ أكمن له في المسجد فإذا خرج إلى صلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه فإن نجونا فقد شفينا أنفسنا وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها‏.‏

قال‏:‏ ويحك‏!‏ لو كان غير علي كان أهون قد عرفت سابقته وفضله وبلاءه في الإسلام وما أجدني أنشرح لقتله‏.‏

قال‏:‏ أما تعلمه قتل أهل النهر العباد الصالحين قال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فنقتله بمن قتل من أصحابنا‏.‏

فأجابه‏.‏

فلما كان ليلة الجمعة وهي الليلة التي واعد ابن ملجم أصحابه على قتل علي ومعاوية وعمرو أخذ سيفه ومعه شبيب ووردان وجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي للصلاة فلما خرج علي نادى‏:‏ أيها الناس الصلاة الصلاة‏.‏فضربه شبيب بالسيف فوقع سيفه بعضادة الباب وضربه ابن ملجم على قرنه بالسيف وقال‏:‏ الحكم لله لا لك يا علي ولا لأصحابك‏!‏ وهرب وردان فدخل منزله فأتاه رجل من أهله فأخبره وردان بما كان فانصرف عنه وجاء بسيفه فضرب به وردان حتى قتله وهرب شبيب في الغلس وصاح الناس فلحقه رجل من حضرموت يقال له عويمر وفي يد شبيب السيف فأخذه وجلس عليه فلما رأى الحضرمي الناس قد أقبلوا في طلبه وسيف شبيب في يده خشي على نفسه فتركه ونجا وهرب شبيب في غمار الناس‏.‏

ولما ضرب ابن ملجم عليًا قال‏:‏ لا يفوتنكم الرجل‏.‏

فشد الناس عليه فأخذوه وتأخر علي وقدم جعدة بن هبيرة وهو ابن أخته أم هانىء يصلي بالناس الغداة وقال علي‏:‏ أحضروا الرجل عندي‏.‏

فأدخل عليه‏.‏

فقال‏:‏ أي عدو الله‏!‏ ألم أحسن إليك قال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فما حملك على هذا قال‏:‏ شحذته أربعين صباحًا وسألت الله أن يقتل به شر خلقه‏.‏

فقال علي‏:‏ لا أراك مقتولًا به ولا أراك إلا من شر خلق الله‏.‏

ثم قال‏:‏ النفس بالنفس إن هلكت فاقتلوه كما قتلني وإن بقيت رأيت فيه رأيي يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون قد قتل أمير المؤمنين ألا لا يقتلن إلا قاتلي انظر يا حسن إن أنا مت من ضربتي هذه فاضربه ضربةً بضربة ولا تمثلن بالرجل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور‏)‏‏.‏

هذا كله وابن ملجم مكتوف‏.‏

فقالت له أم كلثوم ابنة علي‏:‏ أي عدو الله‏!‏ لابأس على أبي والله مخزيك‏!‏ قال‏:‏ فعلى من تبكين والله إن سيفي اشتريته بألف وسممته بألف ولو كانت ودخل جندب بن عبد الله على علي فقال‏:‏ إن فقدناك ولا نفقدك فنبايع الحسن قال‏:‏ ما آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر ثم دعا الحسن والحسين فقال لهما‏:‏ أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ولا تبكيا على شيء زوى عنكما وقولا الحق وارحما اليتيم وأعينا الضائع واصنعا للآخرة وكونا للظالم خصيمًا وللمظلوم ناصرًا واعملا بما في كتاب الله ولا تأخذكما في الله لومة لائم‏.‏

ثم نظر إلى محمد بن الحنفية فقال‏:‏ هل حفظت ما أوصيت به أخويك قال‏:‏ نعم‏.‏قال‏:‏ فإني أوصيك بمثله وأوصيك بتوقير أخويك لعظيم حقهما عليك فاتبع أمرهما ولا تقطع أمرًا دونهما‏.‏

ثم قال‏:‏ أوصيكما به فإنه شقيقكما وابن أبيكما وقد علمتما أن أباكما كان يحبه‏.‏

وقال للحسن‏:‏ أوصيك أي بني بتقوى الله وإقام الصلاة لوقتها وإيتاء الزكاة عند محلها وحسن الوضوء فإنه لا صلاة إلا بطهور وأوصيك بغفر الذنب وكظم الغيظ وصلة الرحم والحلم عن الجاهل والتفقه في الدين والتثبت في الأمر والتعاهد للقرآن وحسن الجوار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش‏.‏

ثم كتب وصيته ولم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى مات رضي الله عنه وأرضاه‏.‏

وغسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص وكبر عليه الحسن سبع تكبيرات‏.‏

فلما قبض بعث الحسن إلى ابن ملجم فأحضره فقال للحسن‏:‏ هل لك في خصلة إني والله قد أعطيت الله عهدًا أن لا أعاهد عهدًا إلا وفيت به وإني عاهدت الله عند الحطيم أن اقتل عليًا ومعاوية أو أموت دونهما فإن شئت خليت بيني وبينه فلك الله علي إن لم أقتله أو قتلته ثم بقيت أن آتيك حتى أضع يدي في يدك‏.‏

فقال له الحسن‏:‏ لا والله حتى تعاين النار‏.‏

ثم قدمه فقتله وأخذه الناس فأدرجوه في بواري وأحرقوه بالنار‏.‏

قال عمرو بن الأصم‏:‏ قلت للحسن بن علي‏:‏ إن هذه الشيعة تزعم أن عليًا مبعوث قبل القيامة‏!‏ فقال‏:‏ كذب والله هؤلاء الشيعة لو علمنا أنه مبعوث قبل القيامة ما زوجنا نساءه ولا قسمنا ماله أما قوله‏:‏ هذه الشيعة فلا شك أنه يعني طائفة منها فإن كل شيعة لا تقول هذا إنما تقوله طائفة يسيرة منهم ومن مشهوري هذه الطائفة‏:‏ جابر بن يزيد الجعفي الكوفي وقد انقرض القائلون بهذه المقاتلة فيما نعلمه‏.‏

بجرة بفتح الباء والجيم‏.‏

والبرك بضم الباء الموحدة وفتح الراء وآخره كاف‏.‏

وأما البرك بن عبد الله فإنه قعد لمعاوية في تلك الليلة التي ضرب فيها علي فلما خرج معاوية ليصلي الغداة شد عليه بالسيف فوقع السيف في أليته فأخذ فقال‏:‏ إن عندي خبرًا أسرك به فإن أخبرتك فنافعي ذلك عندك قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ إن أخًا لي قد قتل عليًا هذه الليلة‏.‏

قال‏:‏

وبعث معاوية إلى الساعدي وكان طبيبًا فلما نظر إليه قال‏:‏ اختر إما أن أحمي حديدة فأضعها موضع السيف وإما أن أسقيك شربة تقطع منك الولد وتبرأ منها فإن ضربتك مسمومة‏.‏

فقال معاوية‏:‏ أما النار فلا صبر لي عليها وأما الولد فإن في يزيد وعبد الله ما تقر به عيني‏.‏

فسقاه شربة فبرأ ولم يولد له بعدها‏.‏

وأمر معاوية عند ذلك بالمقصورات وحرس الليل وقيام الشرط على رأسه إذا سجد وهو أول من عملها في الإسلام‏.‏

وقيل‏:‏ إن معاوية لم يقتل البرك وإنما أمر فقطعت يده ورجله وبقي إلى أن ولي زياد البصرة وكان البرك قد صار إليها وولد له فقال له زياد‏:‏ يولد لك وتركت أمير المؤمنين لا يولد له فقتله وصلبه‏.‏

وأما عمرو بن بكر فإنه جلس لعمرو بن العاص تلك الليلة فلم يخرج وكان اشتكى بطنه فأمر خارجة بن أبي حبيبة وكان صاحب شرطته وهو من بني عامر بن لؤي فخرج ليصلي بالناس فشد عليه وهو يرى أنه عمرو بن العاص فضربه فقتله فأخذه الناس إلى عمرو فسلموا عليه بالإمرة‏.‏

فقال‏:‏ من هذا قالوا‏:‏ عمرو‏.‏

قال‏:‏ فمن قتلت قالوا‏:‏ خارجة‏.‏

قال‏:‏ أما والله يا فاسق ما ظننته غيرك‏!‏ فقال عمرو‏:‏ أردتني وأراد الله خارجة‏.‏

فقدمه عمرو فقتله‏.‏

قال‏:‏ ولما بلغ عائشة قتل علي قالت‏:‏

ثم قالت‏:‏ من قتله فقيل‏:‏ رجل من مراد‏.‏

فقالت‏:‏ فإن يك نائيًا فلقد نعاه نعيٌّ ليس في فيه التراب فقالت زينب بنت أبي سلمة‏:‏ أتقولين هذا لعلي فقالت‏:‏ إنني أنسى فإذا نسيت فذكروني وقال ابن أبي مياس المرادي‏:‏ فنحن ضربنا يا لك الخير حيدرا أبا حسنٍ مأمومةً فتفطرا ونحن خلعنا ملكه من نظامه بضربة سيفٍ إذ علا وتجبرا ونحن كرامٌ في الصباح أعزةٌ إذا المرء بالموت ارتدى وتأزرا وقال أيضًا‏:‏ ولم أر مهرًا ساقه ذو سماحةٍ كمهر قطام بين عربٍ ومعجمٍ ثلاثة آلافٍ وعبدٌ وقينةٌ وضرب عليٍ بالحسام المصمم فلا مهر أغلى من عليٍ وإن غلا ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم وقال أبو الأسود الدئلي في قتل علي‏:‏ ألا أبلغ معاوية بن حربٍ فلا قرت عيون الشامتينا أفي شهر الصيام فجعتمونا بخير الناس طرًا أجمعينا ومن لبس النعال ومن حذاها ومن قرأ المثاني والمبينا إذا استقبلت وجه أبي حسينٍ رأيت البدر راع الناظرينا لقد علمت قريشٌ حيث كانت بأنك خيرها حسبًا ودينا وقال بكر بن حسان الباهري‏:‏ قل لابن ملجم والأقدار غالبةٌ‏:‏ هدمت للدين والإسلام أركانا قتلت أفضل من يمشي على قدمٍ وأعظم الناس إسلامًا وإيمانا وأعلم الناس بالقرآن ثم بما سن الرسول لنا شرعًا وتبيانا صهر النبي ومولاه وناصره أضحت مناقبه نورًا وبرهانا وكان منه على رغم الحسود له مكان هارون من موسى بن عمرانا ذكرت قاتله والدمع منحدرٌ فقلت سبحان رب العرش سبحانا إني لأحسبه ما كان من أنسٍ كلا ولكنه قد كان شيطانا قد كان يخبرهم هذا بمقتله قبل المنية أزمانًا فأزمانا كأنه لم يرد قصدًا بضربته إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا